(٩٧) بيتهوفن , لحن الموت , النهاية

(٩٧) بيتهوفن

انقطعت أخبار «استيفن» عن «كوبلانس» وأنديتها ومجامعها، وكان غرة جبينها المتلألئة، وشمس جمالها الساطعة، فتساءل عنه أصدقاؤه ومعارفه، وصنائع أياديه وفواضله، والمعجبون بذكائه ونبوغه، حتى عرفوا قصته، وما كانوا يعرفون شيئًا منها قبل اليوم، فهالهم الأمر وتعاظمهم، وأشفقوا أن تختطف يد الدهر من أيديهم تلك الحياة النضرة الزاهرة التي لم يتمتعوا بها إلا قليلًا من الأيام، فمشى بعضهم بذلك إلى بعض، واجتمع منهم جمعٌ عظيم ضم بين حاشيتيه كثيرًا من كبار الموسيقيين، ونوابغ الممثلين، ورجال الشعر والأدب، فأجمعوا رأيهم على زيارته في قريته، وألا يزالوا به حتى يهجر عزلته ويعود إلى حياته الأولى بينهم، فكتبوا إليه أنهم وافدون لزيارته غدًا.
ثم ركبوا في أصيل اليوم الثاني عجلاتهم، واستصحب كثير منهم نساءهم وفتياتهم، وذهبوا إلى القرية، فاستقبلهم استيفن على باب داره باسمًا متطلقًا كأنه لا يُضمر بين جنبيه لوعةً ولا أسى، وكأن قلبه لا يذوب بين أضالعه ذوب السبيكة في بوتقتها، فطمعوا فيه إذ رأوه، وخيل إليهم أنه قد برئ مما به أو كاد، وأن هذه الصفرة الرقيقة التي لا تزال تلبس وجهه إنما هي أثر من آثار ذلك الماضي سيذهب مع الأيام، وكان قد أعد لهم في الحديقة مائدة عظيمة للعشاء، فجلسوا إليها وكانوا أكثر من ثلاثين رجلًا وامرأة، وجلس هو بينهم يحدثهم ويطرفهم بِمُلَحِه ونوادره، وتجنب في أحاديثه معهم كل ما يتعلق بكارثته، فلم يجرؤ أحدٌ منهم أن يفاتحه فيها حتى فرغوا من الطعام، فتفرقوا في أنحاء الحديقة زُمَرًا يرتاضون ويسمرون حتى مضت قطعة من الليل، فاقترح أحدهم أن يؤتى بالبيانو إلى فضاء الحديقة ليوقع عليه من يشاء منهم، فأُتي به، فجلس إليه الموسيقي «فردريك» ووقع عليه لحنًا من ألحان الموسيقار العظيم «بيتهوفن»، فطرب له السامعون طربًا عظيمًا، وقال أحدهم: لقد كان «بيتهوفن» الرسول الإلهي الذي بعثه الله إلى البشر ليخاطبهم بلغته، فهو الرجل الذي استطاع وحده من دون الموسيقيين جميعًا أن ينطق بلسان الطبيعة، ويردد أنغامها وأهازيجها، وأن يكون في غنائه هادئًا كالماء، وصافيًا كالسماء، وعميقًا كالبحر، وصادحًا كالطير، وخافقًا كالنجم، فقال الموسيقي «موزات»: نعم ولكنه كان سيئ الحظ، عاثر الجد، فقد قضى حياته فقيرًا معدمًا يسعى إلى الكفاف من العيش فلا يجده، وخاملًا مغمورًا، يطلب الشهرة من طريق الفن فلا يظفر بها، حتى مات شريدًا طريدًا في وطنٍ غير وطنه، وبين قومٍ وأسرةٍ غير قومه وأسرته، فقال الشاعر «سيدروف»: من منكم يحفظ تاريخ حياته الأخيرة فيقصه علينا؟ فقال «استيفن»: أنا أقصه عليكم؛ لأني أعلم الناس به، فقد كان أستاذي «هومل» رحمة الله عليه صديقه الذي عاشره في آخر أيام حياته حتى مات وتولى دفنه بيده، وكان كثيرًا ما يقص عليَّ ذلك التاريخ وهو يبكي بكاءً شديدًا، فأنا أرويه لكم كما كان يحدثني به.
ثم أقبل عليهم وأنشأ يقول: لقد قسا الدهر على «بيتهوفن» قسوةً عظيمة لم يقسُها على أحد من قبله من رجال الفنون والآداب، فقد وضع للعالم تلك الموسيقى السماوية العالية التي حاكى بها الطبيعة في نغماتها ورناتها، وصور فيها أدق عواطف القلوب وخوالجها، فلم يحفل بها الناس كثيرًا، ولم يأبهوا لها، وكانوا قد ألفوا قبل ذلك تلك الموسيقى الصناعية المتكلفة التي كان يتأنق الموسيقيون الماضون في تنسيقها وتدبيجها تأنق النحات في صنع الدمية الجميلة التي لا روح فيها، وافتتنوا بها افتتانًا عظيمًا فلم يستطيعوا أن يفهموا غيرها، أو يهَشُّوا لشيء سواها، ولم يكن مصابه بجهل الناس إياه واحتقارهم له بأقل من مصابه بحسد حساده من أبناء حرفته، واضطغانهم عليه، بل لم يكن له مصابٌ غير هؤلاء، فهم الذين وقفوا في وجهه، واعترضوا سبيله، واستقبلوه حين وقف عليهم بتلك القيثارة الجميلة الرنانة بابتسامات الهزء والسخرية، وذهبوا كل مذهب في النيل منه، والولع به، والغض من شأنه، وما كانوا يجهلون فضله ومقداره، وقيمة ما استحدثه في الفن من بدائع المبتكرات وغرائبها، ولكنهم عجزوا عن الصعود معه إلى ذروته التي صعد إليها، فلم يكن لهم بد من أن يثيروا حول كوكبه الساطع المتلألئ في سماء الموسيقى هذه الغبرة السوداء من المثالب والمطاعن، فلا يرى الناس أشعته، ولا يشعرون بمكانتها، حتى إن «هايدن» نفسه — وكان أكثرهم اعتدالًا وأدناهم إلى العدل والإنصاف — لم يستطع أن يسمح لنفسه بأن يقول عنه في تقريظه أكثر من أنه «عازفٌ ماهر.» فكان مثله في ذلك مثل من يقول عن شاعرٍ مثل شاعرنا «جيتيه»: إنه «يحسن الإملاء.»
ولم يزل هذا شأنهم معه حتى نغصوا عليه حياته، وذهبوا براحة نفسه وسكونها، وملئوا قلبه وساوس وأوهامًا، فساء ظنه بنفسه، وأصبح يرتاب معهم كما يرتابون في اقتداره ونبوغه، ولولا أن صديقه «هومل» كان مرآته الصادقة التي يرى فيها نفسه من حينٍ إلى حينٍ لنفض يده من الموسيقى نفض اليائس القانط، ولحرمت الأمة الألمانية هذه القيثارة البديعة الساحرة التي لم يخلق الله لها شبيهًا في العالم مذ خُلقت الدنيا حتى اليوم، فويلٌ للأشرار الخبثاء، ماذا كانوا يريدون أن يصنعوا؟ وماذا كان يكون شأن الموسيقى في العالم لو تم لهم ما أرادوا؟
ولم يستطع «بيتهوفن» أن يصبر طويلًا على هذه المَظْلِمَة، وضاق ذرعه بتلك النظرات المؤلمة التي أصبح الناس ينظرون بها إليه كلما مشى في طريقٍ، أو ظهر في مجتمع، فلم يُطِقِ المُقَامَ بينهم، ولا العيش فيهم، فظل يتنقل في أنحاء البلاد غدوًّا ورواحًا، لا يهبط بلدة حتى يطير به الضجر إلى غيرها، ولا تطلع عليه الشمس في مكان حتى تغرب عنه في مكانٍ آخر، وكان له في مبدإ أمره ثروةٌ صالحة يعود بها على نفسه وذوي قرباه، ولكنه كان من أصحاب الملكات الشعرية، والشعر والحزم لا يجتمعان في رأسٍ واحدٍ، فلم يزل به إسرافه وتخرقه حتى أضاعها، فأصبح لا يملك أداة من أدوات الرزق غير قيثارته، وقيثارته سلعةٌ كاسدةٌ في سوق الفنون لا يبتاعها منه أحد، فزهد المجامع والمحافل، وعاف المدائن والقرى، وفر بنفسه إلى الغابات والأحراش وقُلَل الجبال وضفاف الأنهار، وهنالك في خلواته ومعتزلاته حيث لا يَسمع صوتًا غير صوت الطبيعة، ولا يرى وجهًا غير وجه الله، أخذ يبث قيثارته آلامه وأحزانه، ويسكب مدامعه الغزيرة بين مثانيها ومثالثها، ويضع وهو جائعٌ طاوٍ صفر اليد والأحشاء تلك الموسيقى العظيمة التي يعيش الموسيقيون اليوم ببركتها عيش السعداء، وينعمون في ظلالها بنعمة العيش الرغيد.
وكثيرًا ما كان يستمر به المسير حتى يصل إلى «جزر الدانوب»، فيهيم إلى ضفاف ذلك النهر أيامًا طِوالًا لا يفترش إلا العشب، ولا يلتحف غير الظل، ولا يطعم إلا ما يقذف به إليه النهر من أحيائه، حتى يعثر به صديقه «هومل» فيعود به إلى العمران.
ولم يقنع الدهر منه بذلك حتى رماه في آخر أيامه بالصمم، فلم يأسف لهذه النكبة كثيرًا، بل قال في نفسه: إني أحمد الله على ذلك، فقد كفاني نصف شرور الناس فلعله يكفيني نصفها الآخر، فلا أرى وجوههم، ولا أسمع أصواتهم، ولقد صدق فيما قال، فقد أخذ الناس يسمونه بعد نزول تلك الكارثة به بالموسيقي المجنون، فلم يسمع شيئًا مما يقولون.
وأصبح منذ ذلك اليوم هادئًا ساكنًا لا يشكو ولا يتضجر، بل لا يشعر ولا يتألم، وذهب إلى غابة قريبة من مدينة «بادن» فعاش فيها وحيدًا منفردًا لا يسمع إلا صوت قلبه، ولا يصغي إلا لتلك النغمات الداخلية التي تتردد بدون انقطاع في أعماق نفسه، ولا يرى أحدًا من الناس غير صديقه «هومل» من حينٍ إلى حينٍ، فإذا جاءه طرح عليه ما وضعه من الألحان فيحمله عنه إلى الناس من حيث لا يشعر، وهو باقٍ في مكانه لا يفارقه.
وكان الناس قد أصبحوا يألفون أنغامه بعض الشيء ويصغون إليها، لا لأن حساده قد هدءوا عنه، أو انقطعوا عن مناوأته والغَضِّ منه، بل لأن للطبيعة سلطانًا فوق سلطان الضغائن والأحقاد، ولأن السحب المتبلدة في آفاق السماء لا تستطيع أن تطفئ نور الشمس، بل تحجب ضياءها عن العيون لحظة من الزمان ثم لا تلبث أن تنقشع عنها، فإذا هي ملء العيون والأنظار.
ولم يقضِ في عزلته هذه زمنًا طويلًا حتى ورد عليه كتابٌ من ابن اختٍ له في «فينا» كان قد تبناه في صغره وأحبه حبًّا كثيرًا يقول له فيه: إنني متهم بتهمةٍ عظيمة لا سبيل لي إلى الخلاص منها إلا بحضورك، فسافر إليه دون أن يقابل صديقه «هومل»، ولم يكن معه من المال ما يقوم بنفقات سفره، فكان يمشي على قدمه حينًا ويركب عجلات النقل أحيانًا، حتى نال منه الجهد، وأصبح عاجزًا عن المسير.
وكان الطريق إلى «فينا» لا يزال بعيدًا فمر ذات ليلة ببيتٍ صغيرٍ منفردٍ في ظاهر إحدى القرى فوقف ببابه وأخذ يقرعه قرعًا خفيفًا، فخرج إليه صاحب البيت وسأله: ما شأنه؟ فقال له: إنني شيخٌ أصم، غريبٌ عن هذه الديار، وقد أظلني الليل وعجزت عن المسير فلا أستطيع المضي في سبيلي، فائذن لي بمضجعٍ آوي إليه بقية ليلتي، وإن شئت فَأْمُرْ لي بكسرة خبزٍ أسد بها رمقي، فأشفق عليه الرجل وأوى له، وأحله من بيته أكرم محل وأسماه، وكان للرجل ابنتان في سن الشباب فقامتا بين يديه تخدمانه حتى رجعت إليه نفسه، فدعوه إلى المائدة فأكل معهم، ثم مشى إلى مُصْطَلًى في أحد أركان القاعة، فجلس إليه يصطلي ويجفف ثيابه، وكان صاحب البيت من المولعين بالموسيقي والمغرمين بتوقيعها ليلهم ونهارهم، فما فرغ من الطعام حتى جلس أمام «البيانو» وأخذ يقلب دفتر الموسيقى الذي بين يديه حتى وقع على ما يريد منه، فأشار إلى ابنتيه أن تأخذا قيثارتيهما، وأخذوا يعزفون جميعًا بنغمة واحدة، فاغتبط «بيتهوفن» بمنظرهم، وإن لم يسمع من غنائهم شيئًا وكل ما استطاع أن يفهمه من شأنهم أن لذلك اللحن الذين يوقعونه سلطانًا عظيمًا على نفوسهم، فقد رآهم متأثرين عند توقيعه تأثرًا شديدًا، ورأى صاحبة البيت وخادمتها قد تركتا ما كانتا تشتغلان به من شئون البيت وأعماله ووقفتا للاستماع، وقد سكنت أطرافهما، وتهلل وجهاهما، وذهبتا ببصرهما في السماء كأنما تتبعان أثر تلك النغمات في طريقها إلى الملأ الأعلى، حتى انتهت القطعة، فاغرورقت عينا الفتاة الصغرى بالدموع، وألقت بنفسها بين ذراعي أمها، وبكت بكاءً شديدًا، فنهض بيتهوفن من مكانه ومشى إليهم وقال لهم: إنني لم أستطع أن أسمع شيئًا من ألحانكم أيها الأصدقاء، ولكنني استطعت أن أفهم أنها ألحان جميلة مؤثرة فتأثرت معكم، وطربت لطربكم، ولقد كنت قبل أن تحل بي هذه النكبة التي ترونها أحب الموسيقى حبًّا شديدًا، ولا يلذ لي في الحياة شيءٌ مثل استماعها، فهل تأذنون لي أن أنظر في دفتر الموسيقى لأقرأ تلك القطعة التي كنتم توقعونها؟ فأومأ إليه بالإيجاب، فأكب على الصحيفة، فما وقع نظره على القطعة ورأى اسم صاحبها في رأسها حتى اصفر لونه، وارتعدت يده وارفض جبينه عرقًا، ثم أخذ يبكي بكاءً شديدًا، فانتبه القوم إليه، ونهضوا من مكانهم مذعورين، وأحاطوا به يسألونه ما خطبه، فأشار بأصبعه إلى عنوان القطعة، فلم يفهموا ما يريد، فقال لهم: إنها قطعتي أيها الأصدقاء، وأنا الموسيقي «بيتهوفن»! فدهشوا جميعًا، وظلوا ينظروا إليه باهتين مذهولين، ثم رفعوا قبعاتهم عن رءوسهم، وجثوا بين يديه خاضعين متخشعين، وتناولوا يده وأخذوا يقبلونها واحدًا بعد آخر، فكانت هذه الساعة هي الساعة الوحيدة التي ذاق فيها لذة الاحترام في حياته، وكانت هي بعينها الساعة التي رفرف على رأسه فيها طائر الموت، فقد شعر في تلك اللحظة بوخزة مؤلمة في جنبه، فتساقط في مكانه، فتلقوه على أيديهم، واحتملوه إلى سريره، وسهروا بجانبه الليل كله يعللونه ويستشفون له، فيستفيق مرة، ويستغرق في غشيته أخرى، حتى الصباح.
وكان صديقه «هومل» قد عرف أمر سفره فتبعه في الطريق التي سلكها، وظل يسائل عنه في كل مكان حتى عرف القرية التي وصل إليها، والبيت الذي نزله، فصعد إليه فرآه في سكرته التي يعالجها، فجلس بجانبه يبكيه ويتوجع له، حتى انتبه له «بيتهوفن» بعد حين، فابتسم له إذ رآه وقال له: هل جئتني بقيثارتي يا «هومل»؟ قال: نعم يا سيدي، وها هي ذي، فتناولها منه وتناهض متكئًا على إحدى يديه حتى تمكن من الجلوس، وأنشأ يوقع على مسمعٍ من القوم لحنه المحزن المشهور «رب لِمَ أشقيتني وما أشقيت أحدًا من عبادك»، فما أتمه حتى ارتعدت يداه، وجحظت عيناه، وسال العرق من جبينه متحدرًا، فسقط على وسادته وقد غشيته غشية الموت، ثم فتح عينيه بعد لحظة فرأى صديقه «هومل» بجانبه، فأمسك بيده ونظر إليه نظرةً طويلة وقال: «ألم أكن في حياتي عظيمًا يا هومل؟» قال: بلى وأكبر من عظيم، فتهلل وجهه بالبشر، وأسبل عينيه وهو يقول: «الآن أموت سعيدًا!» ثم قَضَى.
وفي اليوم الثاني حُمل ذلك الرجل العظيم إلى مقبرة تلك القرية الحقيرة فدفن فيها، ولم يشيع جنازته غير صديقه «هومل» وأفراد تلك الأسرة التي مات بينها، وكان هذا كل حظه من الحياة.
(٩٨) لحن الموت

ما وصل «استيفن» في حديثه إلى هذا الحد حتى اصفر لونه، وتَغَضَّنَ جبينه وأطرق برأسه إلى الأرض، فانتبه إليه القوم فإذا هو واضعٌ يده على قلبه، وإذا دموعه تنحدر على خديه متتابعة، فقال له أحدهم: ما بك يا «استيفن»؟ فرفع رأسه بعد هنيهة وقال: إنما أبكي على هذا الرجل المسكين الذي عاش في حياته شقيًّا ومات مسكينًا، ولم يبتسم له الدهر في يوم من أيام حياته ابتسامة واحدة يُكافئه بها على يده التي أسداها إلى هذا المجتمع، كأنما قد كُتب للعاملين على وجه الأرض جميعًا أن يعيشوا فيها عيش الأشجار العظيمة في الصحاري المحرقة، تُظَلِّلُ الناسَ بوارِفِ ظلها وهي تصطلي حر الهاجرة وأُوارها، ولو أن القدر أنصفهم ووفاهم أجورهم لما سعد أحدٌ في الحياة سعادتهم، ولا هنئ فيها هناءهم.
فصمت القوم جميعًا، وقد شعروا أنه إنما يحدث عن نفسه، ويرسل في حديثه بعض الزفرات التي تعتلج في صدره.
وإنهم لكذلك إذ نهض من مكانه بغتةً ومشى بقدم هادئة مطمئنة حتى وصل إلى كرسي «البيانو» فجلس عليه، ثم التفت إلى القوم وقال لهم: هل تأذنون لي أيها الأصدقاء وقد قصصت عليكم تاريخ حياة «بيتهوفن» أن أسمعكم لحنه الأخير الذي وقعه في آخر ساعات حياته؟ فتهللت وجوههم فرحًا، وقد ظنوا أنه إنما يريد أن يسري عن نفوسهم تلك الكآبة التي غشيتها منذ الساعة، فقالوا جميعًا: نعم!
فبدأ يوقع ذلك اللحن «رب لم أشقيتني وما أشقيت أحدًا من عبادك» ويغنيه بصوتٍ ضعيفٍ خافتٍ، ثم أخذت عواطفه تشتعل شيئًا فشيئًا، فعلا صوته، وأنشأت نغماته تنتشر في أجواز الفضاء، فسمع القوم تلك الموسيقى السماوية العالية التي لم يخلق الله لها مثيلًا، والتي هي غاية ما أنتجه العقل البشري، فأطرقوا برءوسهم إجلالًا لهذه العظمة المشرقة عليها من سمائها، وخيل إليهم أنهم لا يرون بينهم مغنيًا يوقع على أوتاره، بل ثاكلًا متفجعًا يذرف مدامعه، ويصعد زفراته، حتى الموسيقي «موزات» همس في أذن أحد الجالسين بجانبه قائلًا: «إن الرجل لا يغني بل يموت، وإني أشم من أنفاسه رائحة الكبد المحترقة.» وكان كلما استمر في غنائه اشتد تأثره، والتهبت عواطفه، وتلون صوته بلون الأنين المحزن، حتى فَنِيَ عن نفسه وعما حوله، واستولت عليه حالة غريبة من الذهول والاستغراق.
وما أتى على النغمة الأخيرة — وكانت أعلى النغمات وأطولها وأذهبها في أجواز الفضاء — حتى نهض القوم جميعًا على أقدامهم وأخذوا يصفقون تصفيقًا شديدًا ويهتفون «ليحيا استيفن.»
وإنهم ليصفقون هذا التصفيق الشديد ويدعون له بالحياة الطويلة، ويتدافعون إلى مكانه لتهنئته وتمجيده، إذا بهم ينظرون إليه فيرونه مائلًا برأسه على ظهر كرسيه، وقد اقشعر وجهه، وتغيرت سحنته، وأمسك بكفه على أحشائه، فطارت ألبابهم، وطاشت عقولهم، ومرت بخواطرهم جميعًا مرور البرق تلك الصورة التي مات عليها «بيتهوفن» في قصته التي قصها عليهم منذ الساعة، فتشاءموا وانقبضت نفوسهم، وأحاط به جماعة منهم فاحتملوه إلى سريره، وحضر الطبيب ففحصه ثم نظر إليه نظرة اليأس، فأطرقوا واجمين مكتئبين واحتاطوا بسريره ينتظرون قضاء الله فيه، ففتح عينيه بعد ساعة ودار بها حوله ونطق باسم «فرتز» — وكان حاضرًا — فلباه، فنظر إليه طويلًا ثم نطق باسم «ماجدولين الصغيرة»، فما لبث أن جاءه بها، فضمها إلى صدره وقبلها قبلة امتزجت فيها عاطفة الرحمة بعاطفة الذكرى، وظل ينظر بعينيه إلى السماء مرة وإلى «فرتز» أخرى، كأنما يوصيه بالطفلة ويستشهد الله على ذلك، ثم التفت إلى القوم وقال بصوتٍ ضعيفٍ متهافت: «أشهدكم أيها الأصدقاء أن جميع ما تملك يدي قسمة بين هذين.» وأشار إلى «فرتز» و«الطفلة»، ثم عاد إلى ذهوله واستغراقه، وأخذ يجود بنفسه، وظل على ذلك ساعة ثم فتح عينيه مرة أخرى فرأى القوم يبكون من حوله ويتفجعون له، فمرت بشفتيه ابتسامةٌ خفيفة، كأنما اغتبط بمنظر تلك العظمة التي تجلت له في دموع هؤلاء العظماء، وأخذ يقلب عينيه فيهم، فتقدم نحوه الموسيقي «فردريك» — وكان أعظم القوم شأنًا وأكبرهم سنًّا — وقال له: هل توصي بشيءٍ يا مولاي؟ فحاول النطق فلم يستطعه، فظل يعالجه حينًا حتى استقاد له، فأنشأ يقول: أوصيك يا «فردريك» أن تجمع ألحاني جميعها في كتابٍ واحد، وأوصيك يا «فرتز» أن تدفنني مع ماجدولين في قبرها، وأن تتولى شأن هذه الطفلة الصغيرة وتحميها مما تحمي منه أهلك وولدك، حتى إذا يفعت زوجتها من الزوج الذي تختاره لنفسها، وأوصيكم جميعًا ألا تحزنوا على موتي، فإنني وإن قضيت حياتي شقيًّا فها أنتم أولاء ترون الآن أنني أموت بينكم سعيدًا، وكان هذا آخر ما نطق به، ثم أسلم روحه.
وكذلك انتهت حياة هذا الرجل العظيم الذي قتل الحب جسمه، ولكنه أحيا نفسه وسجلها في سجل النفوس الخالدات.


(٩٩) النهاية

أما أسرة «فرتز» فقد سعد حالها، وأصبحت في نعمةٍ واسعةٍ من العيش، لا يُنغصها عليها إلا ذكرى ذلك المحسن الكريم، وأما ماجدولين الصغيرة فقد تولى «فرتز» شأنها ورباها مع ولده «برنار» — الذي رضعت معه في صغره — تربية قروية ساذجة بعيدة عن مفاسد المدينة وآفاتها، حتى شبا فتحابا حبًّا شريفًا طاهرًا، فانتهى بهما الأمر إلى الزواج، فعاشا أسعد عيشة وأهنأها، وأما المنزل فقد اشترته جمعية الموسيقى الملوكية في برلين وحفظته تذكارًا لاستيفن، ولا يزال حتى اليوم مزارًا يزوره الناس ويشاهدون فيه آثار ذلك التاريخ الذي دونه الشاعر «سيدروف» ويرون حديقته، وأزهار البنفسج المنتشرة في أنحائها، والحوض المقام في وسطها، والسياج الدائر من حوله، والمقعد الذي جلس عليه «استيفن» وماجدولين ليلة عاتبها وغاضبها، والغرفة الزرقاء التي كانت غرفة عرس ماجدولين أولًا، ولحدها أخيرًا، ومكتبة استيفن، وقيثارته، والبيانو الذي وقع عليه في ساعته الأخيرة «لحن الموت.»
فإذا فرغوا من زيارة المنزل ذهبوا إلى المقبرة فزاروا ذلك القبر الذي دُفن فيه هذان الشقيان البائسان، فيبلل تربته بالدمع منهم من نُكِبَ في حياته بمثل نكبتها، أو عاش فيها شقيًّا كعيشهما. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجنون ليلى - الفصل الثالث

كتاب الدعوات