مجنون ليلى - الفصل الأول

الفصل الأول

(ساحة أمام خيام المهدي في حي بني عامر - مجلس من مجالس السمر في هذه الساحة - فتية وفتيات من الحي يسمرون في أوائل الليل، وفي أيدي الفتيات صوف ومغازل يلهون بها وهم يتحدثون — تخرج ليلى من خيام أبيها عند ارتفاع الستار ويدها في يد ابن ذريح)
ليلى:
دعي الغزْلَ سلمى وحَيِّي معيمنارَ الحِجَازِ فَتَى يَثْرِبِ١
(تصافحه سلمى)
ويا هِنْدُ هذا أديبُ الحِجازِهلمِّي بمَقْدَمِهِ رَحِّبِي
(تصافحه هند ويحتفي به السامرون)
سعد:
أمن يثربٍ أنت آتٍ؟
ابن ذريح:
أجلمن البلدِ القُدُس الطيِّب
ليلى:
أيابنَ ذَريحٍ لقينا الغمام
هند:
وطَافتْ بنا نَفَحَاتُ النبي
عبلة (هامسة إلى سعد):
مَن ابْنُ ذَريحٍ؟
سعد:
فتًى ذِكرُهعلى مَشرِق الشمس والمغرب
رَضيعُ الحُسَيْنِ عليه السلامُوترْبُ الحُسَيْنِ من المكتبِ
عبلة (إلى بشر ومشير إلى ابن ذريح):
أتسمَعُ بشرُ رضيعُ الْحُسَيْنِفديْتُ الرضيعيْن والمُرضعهْ
وأنت إذا ما ذكرنا الحسينَتصاممتَ!
بشر (هامسًا ومتلفتًا كأنما يخشى أن يسمعه أحد):
لا جاهلًا موضِعَهْ
ولكن أخاف امرأً أن يرىعليَّ التشيُّع أو يَسمَعَهْ
أحِبُّ الحسينَ ولكنَّمَالساني عليه وقلبي معهْ!
حَبَسْتُ لسانيَ عن مدحهحِذارَ أميَّةَ أن تقطعه
إذا الفتنةُ اضطرمتْ في البلادورُمْتَ النجاةَ فكُن إمَّعهْ!
ليلى:
إبنَ ذريحٍ نحن في عُزْلَةٍفهل على مُسْتفهِمٍ منك باسْ؟
دارُ النبيِّ كيف خلَّفْتَها؟كيف تركتَ الأمرَ فيها يُساسْ
ابن ذريح:
تركتُها يا ليلَ مَضبوطةًيحكُمُها والٍ شديدُ المراسْ
إن حديثَ الناس في يثربٍهمسٌ وخطوَ الناس فيها احتراس
ليلى:
إبنَ ذريح لا تَجُرْ واقتصِدْأحلامُ مَرْوانَ جبالٌ رَواسْ
يؤسِّسُون المُلْكَ في بيتهموالْعُنْفُ والشدةُ عند الأساس
(تتضاحك الفتيات وتقول إحداهن لأخرى)
فتاة:
ليلى على دينِ قيسٍفحيثُ مال تميلُ!
وكلُّ ما سرَّ قيسًافعند ليلى جميلُ
ابن ذريح:
ما الذي أضحك مني الظَّبياتِ العامريَّهْ
ألأَني أنا شِيعِيٌّ وليلى أمويَّهْ؟
إختلافُ الرأي لا يُفْسدُ للود قضيَّهْ
ليلى:
أعِرْني سماعَك يابنَ ذريحٍولا تسمَعِ الطفلةَ الهاذيَهْ
أتَيْتَ لنا اليومَ من يثربٍفكيف ترى عالَمَ الباديَهْ
أكنتَ من الدور أو في القصورترى هذه القُبَّةَ الصافيَهْ؟
كـأن النجومَ على صدرهاقلائدُ ماسٍ على غانيَهْ
هند:
كفى يابنةَ الخال! هذا الحريرُكثيرٌ على الرِّمَّة الباليَهْ
تأمَّلْ تر البيدَ يابن ذريحكمقبرةٍ وَحْشَةٍ خاويَهْ
سئمنا من البيدَ يابن ذريحومن هذه العيشة الجافيَهْ
ومن مُوقدِ النار في مَوْضِعٍومن حالب الشاة في ناحيَهْ
وراغيةٍ من وراء الخيامتُجيبُ من الكَلأ الثاغيَة٢
وأنتم بيثربَ أو بالعراقأو الشام في الغُرَف العاليَهْ
مُغنِّيكمو مَعْبَدٌ والغريضُوقيْنتُنا الضَّبُعُ العاويَهْ
وقد تأكلون فُنُونَ الطُّهَاةِونأكل ما طَهتِ الماشيَهْ
ليلى:
قد اعَتسَفتْ هندُ يابنَ ذريحٍوكانت على مَهدها قاسيَهْ
فما البيد إلا دِيارُ الكِرَامِومَنزلةُ الذِّمَمِ الوافيَهْ
لها قُبْلَةُ الشمس عند البُزوغوللحَضَرِ القُبْلَةُ الثانيَهْ
ونحن الرياحينُ مِلْءَ الفضاءوهنَّ الرياحينُ في الآنيَهْ
ويقتُلُنا العِشقُ والحاضراتُيَقُمْنَ من العشق في عافيهْ
ولم نصطَدِم بهُمُـوم الحياةِولم نَدرِ — لولا الهوى — ماهيَهْ
وآنًا نخِفُّ لصَيْدِ الظباءوآنًا إلى الأسد الضاريَهْ
هند (ساخرة):
وفي كل ناحيةٍ شاعرٌيغنِّي بليلاهُ أو راويَهْ
(تحاول ليلى أن تمد رجلها فتتألم وتستغيث)
ليلى:
قيسُ، إليَّ قيس
هند:
مادهاك ليلى ما الخبرْ
ليلى:
أُحس رجلي خدِرتحتى كأنها الحَجَرْ
هند:
قد صحتِ قيسُ مرتين
ليلى:
أو ثلاثًا ما الضرر
هند (متهكمة):
إسم الحبيبِ عندنانذكره عند الخدر
ليلى:
هند كفي دعابةإن هو الَّا اسمٌ حضر
(لنفسها)
يا قيس ناجى باسمك القلبُ اللسان فعثَر
عبلة (ضجرة):
أما سوى هذا الحديثِ شاغلُ؟كيف ظللْتَ اليومَ يا منازلُ؟
منازل (ضاحكًا):
منازلُ اليوم كأمس هازلُيشرَبُ أو يَطْعَمُ أو يُغازلُ!
هند:
بخٍ! كذا فلتكنِ الحياةُمُت يا بعير وانفُقي يا شاةُ
انغَمست في الترف الرعاةُ!
ليلى:
وكيف ظللت اليوم سعدُ؟ أهازلٌكتِربك أم في صالحٍ ورشادِ!
سعد:
بل الجدُّ يا ليلى سبيلي وديْدنيحياتي بِوادٍ والمُجونُ بواد
صحبتُ زيادًا طول يومي تلقفًالأشعار قيسٍ من لسان زياد
وإن زيادًا — منذ كان — لرائحٌعلينا بشعر العامريِّ وغاد
ولولا زيادٌ ما تمثَّل حاضرٌبأشعار قيسٍ أو ترنم باد
(يبدو على ليلى شيء من الزهو فتتهامس الفتيات)
سلمى:
انظري هند تريْ ليلى اكتست زهوًا وكبرَا
وتعالت كابنةِ النعمان أو كابنة كسرى!
هند:
لمَ لا سلمى، ألميرفع لها المجنونُ ذكرَا؟
عبلة:
لِمْ إذن يا هند منقيسٍ ومما قال تَبْرَا؟
هند:
عَبَثُ النِّسوةِ! إنا نحن بالنسوة أدرى!
سلمى:
سلوا الآن بشرًا فيم أنفق يومَه؟
أصوات:
سلوه
هند:
سلي يا ليلَ عن يومه بِشرَا
ليلى:
وهَل يومهُ إلا شئونٌ كأمسِهمن الصيد؟
هند:
إن الصيدَ لذتُه الكبرى
بشر:
نعم هو ملهايَ الذي لا أمَلهولا النفسُ تُعطَى عن تناوله صبرا
ولو كان عيشي في قصور أميَّةٍلعَلَّمْتُ فنَّ الصيد فتيانهَا الزهرا
وما أنا صيَّادُ الأرانب مثلَهمولكن على حيَّاتِهِ ألِجُ القَفْرَا
ليلى:
إذن هاتِ واصدُقْ بشرُ في القول مرَّةًولا تخترعْ أو تَبْنِ من حَجَرٍ قصرا!
بشر:
دعي عنكِ هذا السُّخْرَ يا ليلَ واسمعي
ليلى:
تحدَّثْ فلا واللهِ لم أُضْمِر السُّخرا
بشر:
بكَرتُ كدأبي اليومَ أبغي قنيصةًومَن يتصيَّدْ يحسب الغُنْمَ والخُسرا
(رأيت غزالًا يرتعي وَسْط روضةفقلت أرى ليلى تَراءتْ لنا ظُهرًا)٣
هند (مشيرة إلى ليلى):
وأيَّ الليالي بشرُ آنست؟ هذه
بشر:
إذا شئتِ — أو هاتيكِ — أو حُرَّةً أخرى
فقلتُ له يا ظبيُ لا تخشَ حادثًا(فإنك لي جارٌ ولا ترهبِ الدَّهْرَا)
(فما راعني إلا وذئبٌ قد انتحىفأعلق في أحشائه الناب والظُّفرا)
(ففوَّقتُ سهمي في كَتومٍ غمستُهافخالط سهمي مهجةَ الذئبِ والنحرا)
ليلى (ضاحكة):
أخي بشرُ لا شُلتْ يمينُك من يدٍولا فَضَّ فاك الصبحُ والليلُ ما كرَّا
سمعنا بإِقدام اللصوص وفتكهمفلم نر أدهى منك فتكًا ولا أجرا!
ووالله لم تغضب لظبي ولم تثبْبذئب ولم تُعمِلْ خيالًا ولا فكرا
أخذتَ فلم تترك لقيسٍ بضاعةًسرقتَ لعمري الظبيَ والذئبَ والشعرا!
(ضحك من الجميع)
حديثُ الظبيِ والذئبِوقيسٍ لستُ أنساه
زيادٌ عنه نبَّانيولا ينبيك إلَّاه
رأى قيسٌ على رابـية ظبيًا فناداه
فألقى الظبيُ أذْنَيْهِومسَّ الأرضَ قرناه
(ثم تقول في لوعة وصوت مخفوض وكأنما تحدث نفسها)
برُوحي قيسُ! هل راحتظباءُ القاع تهواه؟
وهل يَرثي له الريمُولا أرثي لبلواه؟
(تسترسل في حديثها الأول)
على فيه من العُشْبِبقايا صبغت فاه
رأى في جيده قيسٌوفي عينيه ليلاه
فبينا هو في الشوقِوفي نشوة ذكراه
حبا الذئبُ من الواديإلى الظبي فأرداه
تغدى بحَشا الظَّبيغَداءً ما تهنَّاه
رماه قيس في المقتـل بالسهم فأصماه
بشر (مندفعًا بحماسة!):
أجل يا ليلَ! ما قلتِسوى شيءٍ شهِدناه
وإن لم تذكري القبرَولا كيف خططناه
حفرنا القبرَ للظبيِوقمنا فدفناه
وصلَّينا على الميْتِوبالدمع سقيناه
فقولوا ولتقل ليلىمعي يرحمُه الله!
أصوات (بين الضحك والسخرية):
أجل بشرُ!
أجل بشرُ!
أجل يرحمه الله!
ابن ذريح:
بشرُ كفى هزلًا وتخليطًا كفىويابنةَ العم مضى الليلُ سُدى
أرسلني قيسُ فلو أخبرتنيمتى متى بأمر قيسٍ يُعتنى؟
بتنا نخافُ أن يجِلَّ خطبُهوتبلغَ البلوى بقيسٍ المَدى
وقيسُ يا ليلى وإن لم تجهليزين الشباب وابنُ سيد الحمى
لم ندرِ في حيِّك أو في حيِّهفتى حكاه نسبًا ولا غنى
ولا جمالًا، وهنا (يا ليلَ) ماتريْنَ أنتِ لا الذي نحن نرى
بشر (ساخرًا):
بخٍ بَخٍ! إبنُ ذريح خاطبٌ
ابن ذريح:
أسكت فلست للمروءات أخَا!
ليلى (غاضبة):
فيم هذا الكلامُ يا بنَ ذريحٍ؟
ابن ذريح:
إتقي اللهَ واقصِدي في التجني
ليلى:
ما تجنَّيت
ابن ذريح:
بل ظلمت، دعينيأُحسن الذَّودَ عن صديقي وخِدني
ليلى:
أنا أَوْلى به وأحنى عليهلو يُداوَى برحمتي والتحنِّي
يعلمُ الله وحده ما لقيسمن هوًى في جوانحي مستكِنِّ
إنني في الهوى وقيسًا سواءٌدَنُّ قيس من الصبابة دَنِّي
أنا بين اثنتين كلتاهما النار فلا تَلْحَى ولكن أعِنِّي
بين حرصي على قَداسة عرضيواحتفاظي بمن أُحبُّ وضَنِّي
صنتُ منذ الحداثة الحبَّ جهديوهو مستهترُ الهوى لم يَصُنِّي
قد تغنى بليلة الغَيْلِ، ماذاكان بالغيل بين قيس وبيني؟
كل ما بيننا سلامٌ وردٌّبين عين من الرفاق وأُذن
وتبسَّمتُ في الطريق إليهومضى شأنه وسرتُ لشأني
(تهيب بالسامرين وقد بلغ بها الغضب أقصاه)
أَوْغل الليلُ فلنقمْ
ابن ذريح (متوسلًا):
بل رويدًاواسمعي (ليلَ)
ليلى:
خلِّ عَنِّيَ دعني!
(تدخل خباءها بينما ينفض السامرون فلا يتثاقل منهم في القيام إلا منازل — الهرج والأسف يسودان الجميع)
بشر:
انفضَّ سامرُ ليلىوكان حَفْلًا كريمَا
سعد:
قد فَضَّه ابن ذريحففض عِقدا نظيمَا
أثار ليلى فهاجتكما تنفِّر رِيمَا
ترى أتُبْغِضُ قيسًا
ابن ذريح:
لا تقلبوا الحبَّ بغضَا
ليلى العشيةَ غضبىويُصبح الصبحُ ترضى
سعد:
أنعم (مُنَازِ) مساءً
منازل:
نعمت سعدُ مساء
هند:
بشرُ مُسِّيتَ بخيرٍ
بشر:
أنعمي هندُ مساءَ
هند:
نحن يحوينا طريقٌفامض بلّغني الخباءَ
سعد (ضاحكًا):
احذري يا هند منه!
هند:
أنا لا أخشى اعتداء
قد عرفتم وعرفناكيف يصطاد الظباء!
(تسمع ضحكاتهم من أقصى الطريق بينما يظهر قيس وزياد من جانب المسرح الآخر)
قيس:
سجا الليل حتى هاج لي الشعرَ والهوىوما البيدُ إلا الليلُ والشعرُ والحبُّ
ملَأْت سماءَ البيدِ عشقًا وأرضَهاوحُمِّلْتُ وحدي ذلك العشقَ يا ربُّ
ألَمَّ على أبيات ليلى بيَ الهوىوما غيرَ أشواقي دليلٌ ولا ركبُ
وباتت خيامي خُطوة من خيامهافلم يَشفني منها جوار ولا قرب
إذا طاف قلبي حولها جُنَّ شوقُهكذلك يُطغِي الغُلةَ المنهلُ العذب
يحن إذا شطَّت ويصبو إذا دنتفيا ويح قلبي كم يحن وكم يصبو
وارسلني أهلي وقالوا امض فالتمسلنا قبسًا من أهل ليلى وما شبُّوا
عفا الله عن ليلى لقد نؤتُ بالذيتحمَّلَ من ليلى ومن نارها القلب
منازل (وقد سمع همهمة الصوت ورأى شبحيهما في الظلام):
أرى شبحًا مقبلًا في الظلاموأسمع همهمة في الدجى
هو ابن الملوَّحِ دلَّ الهُزالُعليه ونمَّ اضطراب الخُطا
عدوِّي المبين وما بينناولا بين صاغِيتيْنَا٤ جفا
روى شعرَه البدو والحاضرونوشعريَ ليس له من روى
وهام بليلى وهامت بهلقد كنت أولى بهذا الهوى
تشرَّد مستعظَمًا في البلادوجُنَّ فما ازداد إلَّا نُهى
وإني لأُبدي إليه الودادوأخفي له في الضلوع القِلى
وأحسُدُه حسدًا ما علمتأقيسُ الشقيُّ به أم أنا
(يتقدم منهما خطوات)
من الراكبُ الليل؟ قيسٌ أخي؟
قيس:
منازل؟ ما أعجبَ الملتقى!
منازل:
أقيسًا أرى في ظلال البيوت؟وعهدي بقيس حليفَ الفلا
قيس:
منازل، من أين؟
منازل:
من عندِهامن السمر الممتِع المشتَهى
قيس (حنقًا):
أمن عند ليلى تجرُّ الذيولحديث لَعمرُ أبي مفترى
منازل:
بل الصدقُ ما قلتُ يابن الملوَّح
قيس:
إخسأ متى قلت صدقًا متى؟
وما كنت تصنع؟
منازل (ساخرًا):
ما يصنعونلهوت لعمريَ فيمن لها
وسامر ليلى كثير الزِّحامفلست تعدُّ شباب الحِمى
وليلى تُفيضُ على من تشاءرضاها وتحرمُه من تشا
زياد (مغضبًا):
منازل، قيسُ، سبيلكَ قيس!وكِلْ ليَ تأديبَ هذا الفتى
منازل (وقد أخذ بتلابيبه):
تؤدبُني زيادُ وأنت ظللمجنون وراوية لهاذي
وتزعمُ أنني نِدٌّ لقيسرضِيت من المصائب غيرَ هذي!
زياد:
من قال ذا؟ أنت لقيس نِدُّلم يبق فيكِ يا حياةُ جِدُّ
إمض بنا ناحيةً يا وغد!
(يجره إلى حيث تسمع أصواتهما من بعيد ثم تختفي فيقبل قيس على خباء ليلى وينادي)
قيس:
ليلى!
المهدي (خارجًا من الخباء):
من الهاتف الداعي؟ أقيس أرى؟ماذا وقوفُك والفتيان قد ساروا
قيس (خجلًا):
ما كنتُ يا عمُّ فيهم
المهدي (دهشًا):
أين كنت إذن؟!
قيس:
في الدار حتى خَلتْ من نارنا الدار
ما كان من حطب جَزْلٍ بساحتهاأوْدى الرياحُ به والضيفُ والجار
المهدي (مناديًا):
ليلى — انتظر قيس — ليلى
ليلى (من أقصى الخباء):
ما وراء أبي؟
المهدي:
هذا ابن عمِّك ما في بيتهم نار
(تظهر ليلى على باب الخباء)
ليلى:
قيس ابن عمي عندنايا مرحبًا يا مرحبَا
قيس:
مُتِّعتِ ليلى بالحياة وبَلَغْتِ الأَرَبَا
ليلى (تنادي جاريتها بينما يختفي أبوها في الخباء):
عفراء
عفراء (ملبية نداء مولاتها):
مولاتي
ليلى:
تعالَيْ نقضِ حقًّا وَجَبَا
خذي وعاءً واملئيه لابنِ عمِّي حَطَبَا
(تخرج عفراء وتتبعها ليلى)
قيس:
بالروح ليلى قضت لي حاجةً عرضتما ضرها لو قضت للقلب حاجاتِ
مضت لأبياتها ترتاد لي قبسًاوالنار يا رُوحَ قيسٍ ملءُ أبياتي
كم جئتُ ليلى بأسباب ملفَّقَةٍما كان أكثر أسبابي وعلاتي
(تدخل ليلى)
ليلى:
قيس
قيس:
ليلى بجانبيكلُّ شيء إذن حضَرْ
ليلى:
جمعتنا فأحسنتساعةٌ تَفْضُلُ العُمُرْ
قيس:
أتجدِّين؟
ليلى:
ما فؤادي حديدٌ ولا حجرْ
لك قلبٌ فسله يا قيس ينْبِئْكَ بالخبرْ
قدْ تحملتُ في الهوىفوق ما يحتمل البشرْ
قيس:
لستُ ليلاي داريًاكيف أشكو وأَنفجِرْ؟
أشرح الشوقَ كلهأم من الشوق أختصِرْ؟
ليلى:
نبِّني قيسُ ما الذيلك في البيد من وطرْ؟
لك فيها قصائدٌجاوزَتْها إلى الحضرْ
كلُّ ظبي لقيتهصُغت في جيده الدررْ
أتُرى قد سلوْتناوعشقتَ المَها الأُخرْ؟
قيس:
غرت ليلى من المهَاوالمها منك لم تَغَرْ
حبَّب البيدَ أنهابكِ مصبوغَةُ الصُّوَرْ
لست كالغِيدِ لا ولاقمرُ البيد كالقمرْ
ليلى (وقد رأت النار تكاد تصل إلى كم قيس):
ويحَ عينيَّ ما أرى!قيس
قيس:
ليلى
ليلى (مشفقة):
خذِ الحذرْ!
قيس (غير آبه إلا لما كان فيه من نجوى):
رُبَّ فجر سألتُههل تنفستِ في السحَرْ
ورياح حسِبتُهاجرَّرَت ذيلَك العطِرْ
وغزالٍ جُفونهُسرقت عينكِ الحَوَرْ
ليلى:
إطرح النارَ يا فتىأنت غادٍ على خطرْ
لهبُ النار قيسُ فيكمِّك الأيمن انتشرْ
قيس (مستمرًّا بعد أن رمى النار من يديه):
وذئابٍ أرقَّ يا ليلُ من أهلِك الغُيُرْ
أنِستْ بي ومرَّغتفي يدي الناب والظفُرْ
ليلى:
ويح قيسٍ تحرقتراحتاه وما شَعَرْ
قيس:
أنت أججتِ في الحَشالاعجَ الشوقِ فاستَعَرْ
ثم تخشَيْنَ جمرةًتأكلُ الجلد والشَّعَرْ
(يترنح قيس في موقفه وتظهر عليه بوادر الإغماء)
ليلى:
فِدَاك أبي قيس ماذا دَهاك؟تكلم، أبِن قيس، ماذا تَجِدْ
قيس:
أحسُّ بعينيَّ قد غامتاوساقيَّ لا تحمِلان الجسَدْ
(يخر صريعًا إلى الأرض فتتلقاه على صدرها صارخة)
ليلى:
يا لأبي للجارْقيس صريعُ النارْملقًى بصَحن الدارْ!
(يخرج أبوها من الخباء على صوت استغاثتها)
أبي ها أنت ذا جئتأغِثنا أبتي أدركْ
لقد حُرِّق بالنارِفما يصحو إذا حُرِّك
المهدي:
يرانا الناسُ يا ليلى
ليلى:
أبي انْفِ الناسَ من فكرك
هنا لا تقعُ العيْنُعلى غيري ولا غيرك
ولا يَطْلُعُ إنسانٌعلى سري ولا سِرك
ولا أجدر من قيسبإشفاقك أو برك
أبي صدريَ لا يقوىفأسندْه إلى صدرك
المهدي (وهو يتلقى عنها جسد قيس ويحاول إنعاشه):
رعاك اللهُ يا ليلىوكافاك على صبرك
أخافُ الناسَ في أمريوأخشى القلبَ في أمرك
وكم داريتُ يا ليلىوكم مهَّدْتُ من عذرك
ولست الوالدَ القاسيولا الطامعَ في مهرك
(يناجي قيسًا في غيبوبته)
أبا المهديِّ عوفيتَويا بورك في عمرك
أراني شعرُكَ الويلَوما أروي سوى شعرك
كما لَذَّ على الكُرهِكلامُ الله للمشرك!
(يتحرك قيس ويبدو عليه كـأنما يفيق فيناديه)
قيس
قيس (يحاول الوقوف فتسنده ليلى):
لبَّيك عمِّ
المهدي:
حسبُكَ فاذهبْلا تطأْ لي بعد العشيَّةِ دارَا
ليلى:
أبتي لا تَجُر على قيسَ
المهدي:
لِمْ لاإن قيسًا على القرابة جارَا
ليلى:
أبتي ما تراه كالفَنن الذاوي نُحولًا وكالمَغيب اصفرارَا؟
وتأملْ رداءَه ويديْهتجد النارَ أو ترَ الآثارَا
أبتي دَعْهُ يَسترحْ
المهدي:
بل دعينالا تزيدي يا ليلَ سُخطي انفجارَا
قيس:
حسبُ يا ليلَ، حسبُ ذلًّا لعمِّيوكفى حِلفةً له واعتذارَا
عمُّ ماذا جنيت؟
ليلى:
ماذا جنى قيس؟
المهدي:
نسيتِ الرُّوَاةَ والأخبارَا
قيس:
إنهم يأفكِون يا عمِّ
المهدي:
والغيلُ أليلًا غشِيتَه أم نهارَا؟
ما الذي كان ليلةَ الغَيْل حتىقلتَ فيها النَّسيبَ والأشعارَا؟
قيس:
لم تكنْ وحدَها ولا كنتُ وحديإنما نحن فِتيةٌ وَعَذارَى
جمعتْنا خمائلُ الغيل بالليلكما يجمعُ الحمى السُّمَّارَا
ليسَ غيرَ السلامِ ثم افترَقناذهبتْ يمنةً وسِرتُ يسارَا
المهدي:
إِمض يا قيس إمض لا تكسُ ليلىكلَّ حينٍ فضيحةً وشنارَا
فكأني بقصة النار تُروىوكأني بذلك الشعر سارَا
وكأني ارتديتُ في الحي ذلًّاوتجللتُ في القبائل عارَا
إمض قيسُ امضِ
قيس:
عمُّ رفقًا بليلىوبقيسٍ ولا تكن جبارَا
الحذَارَ الحِذَارَ من غضب اللهومن سُخطه الحذار الحذارَا
المهدي:
إِمض قيس امض جئت تطلب نارًاأم ترى جئتَ تُشعلُ البيتَ نارَا؟
(يخرج قيس)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجنون ليلى - الفصل الثالث

(٩٧) بيتهوفن , لحن الموت , النهاية

كتاب الدعوات