فصل - مباداة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، وما كان منهم


فصل - مباداة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، وما كان منهم 


- أمر الله له صلى الله عليه وسلم بمباداة قومه 

@ قال ابن إسحاق : ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، وتحدث به . ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه ، وأن يبادي الناس بأمره ، وأن يدعو إليه ؛ وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه ؛ ثم قال الله تعالى له : ( فاصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين ) . وقال تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين . واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . وقل إني أنا النذير المبين ) . 

- معنى اصدع بما تؤمر 

@ قال ابن هشام : اصدع : افرق بين الحق والباطل . 

قال أبو ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد ، يصف أُتن وحش وفحلها : 

وكأنهن ربابة وكأنه * يَسَر يُفيض على القداح ويصدعُ (2/ 98) 

أي يفرق على القداح ويبين أنصباءها . وهذا البيت في قصيدة له . 

وقال رؤبة بن العجاج : 

أنت الحليم والأمير المنتقم * تصدع بالحق وتنفي من ظلمْ 

وهذان البيتان في أرجوزة له . 

- خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه للصلاة في الشعب 

@ قال ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ، ذهبوا في الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بِلَحْي بعير ، فشجه ، فكان أول دم هُريق في الإسلام . 

- عداوة قومه له صلى الله عليه و سلم ، ومساندة أبي طالب له 

@ قال ابن إسحاق : فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها ؛ فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون ، وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمُّه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه ، (2/ 99) ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله ، مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء . 

فلما رأت قريش ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه ، من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب . وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر . 

قال ابن هشام : واسم أبي سفيان : صخر . 

قال ابن إسحاق : وأبو البختري ، و اسمه العاص بن هشام بن الحارث ابن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي . 

قال ابن هشام : أبو البختري : العاص بن هاشم . 

قال ابن إسحاق : والأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي . وأبو جهل - واسمه عمرو ، وكان يكنى أبا الحكم - بن هشام بن المغيرة بن (2/ 100) عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي . والوليد بن المغيرة بن عبدالله ابن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي . و نُبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي . والعاص بن وائل . 

قال ابن هشام : العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد بن سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي . 

- وفد قريش يعاتب أبا طالب في شأن الرسول الله صلى الله عليه و سلم 

@ قال ابن إسحاق : أو من مشى منهم . فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ؛ فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه ؛ فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه . 

- الرسول صلى الله عليه وسلم يستمر في دعوته 

@ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هو عليه ، يظهر دين الله ، ويدعو إليه ، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها ، فتذامروا فيه ، وحض بعضهم بعضا عليه . 

- رجوع الوفد إلى أبي طالب مرة ثانية 

@ ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنـزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى (2/ 101) تكفه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، أوكما قالوا له . ثم انصرفوا عنه ، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه . 



- ما دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي طالب 

@ قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدث : أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة ، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي كانوا قالوا له ، فأبقِ علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛ قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . 

قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته . قال : ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ثم قام ؛ فلما ولى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل يا ابن أخي ؛ قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اذهب يا بن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا . 

- قريش تعرض عمارة بن الوليد المخزومي على أبي طالب 

@ قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول (2/ 102) الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له - فيما بلغني - : يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولدا فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا ، الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل ؛ فقال : والله لبئس ما تسومونني ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون ابدا . 

قال : فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي : و الله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا ؛ فقال أبو طالب للمطعم : والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظارهة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك ، أو كما قال . قال : فحقب الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضا . 

- شعر أبي طالب في التعريض بالمطعم ومن خذله من عبد مناف 

@ فقال أبو طالب عند ذلك ، يعرض بالمطعم بن عدي ، ويُعم من خذله من بني عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه ، وما تباعد من أمرهم : 

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظي من حياطتكم بكْرُ (2/ 103) 

من الخور حبحاب كثير رُغاؤه * يُرش على الساقين من بوله قطر 

تخلف خلف الوِرْد ليس بلاحق * إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر 

أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر 

بلى لهما أمر ولكن تجرجما * كما جُرجمت من رأس ذي علق الصخر 

أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * هما نبذانا مثل ما يُنبذ الجمر 

هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صِفْرُ 

هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يُرس له ذكر 

وتيم ومخزوم وزُهرة منهمُ * وكانوا لنا مولى إذا بُغي النصر 

فوالله لا تنفك منا عداوة * ولا منهمُ ما كان من نسلنا شفر 

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم * وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر 

قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما . 



- قريش تظهر عداوتها للمسلمين 

@ قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين (2/ 104) أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمه أبي طالب ، وقد قام أبو طالب ، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب ، فدعاهم إلى ما هو عليه ، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقيام دونه ؛ فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبي لهب ، عدو الله الملعون . 

- شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته 

@ فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه ، وحدبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، ومكانه منهم ، ليشد لهم رأيهم ، وليحدبوا معه على أمره ، فقال : 

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها 

وإن حُصّلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها 

وإن فخرت يوما فإن محمدا هو المصطفى من سرها وكريمها * 

تداعت قريش غثها وسمينها علينا فلم تظفر وطاشت حلومها * 

وكنا قديما لا نقر ظُلامة إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقيمها * 

ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أجحارها من يرومها 

بنا انتعش العود الذَّوَاء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (2/ 105)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجنون ليلى - الفصل الثالث

(٩٧) بيتهوفن , لحن الموت , النهاية

كتاب الدعوات